عن أبي حُميد الساعدي قال: استعمَل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلًا من بني أسد يُقال له: ابن اللُّتْبيَّة- قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقة- فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم، وهذا لي أُهْدِي لي، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: «ما بال العامل نَبعثه فيأتي، فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر»، ثم رفَع يديه؛ حتى رأَيْنا عُفْرتَى إبطَيه: «ألا هل بلَّغْت؟!» ثلاثًا؛ قال سفيان: قصَّه علينا الزُّهْري، وزادَ هشام: عن أبيه عن أبي حميد قال: سَمِع أذناي، وأبْصَرتْه عيني، وسَلُوا زيد بن ثابت؛ فإنه سَمِعه معي، ولَم يَقُل الزُّهْري: سَمِع أُذُني.
تخريج الحديث:
أخرجه الحُميدي (840)، وأحمد (5/ 423)، وفيهما: رجلًا من الأَزْد، والبخاري (3/ 428/ 1500)، ولفظه: رجلًا من الأسْد، وفيه أيضًا: فلمَّا جاء، حاسَبه، وفي (13/ 175/ 7174) باللفظ المذكور أعلاه، ومسلم (6/11)، وفيه: رجلًا من الأسد، وأبو داود (2946)، وابن خزيمة (2339)، كلُّهم من طُرق عن ابن عُيينة، وشُعيب، ومَعْمَر عن الزُّهْري عن عُروة عن أبي حُميد الساعدي- رضي الله عنه.
وفي رواية الحميدي، قال سُفيان: وزاد فيه هشام: قال أبو حُميد: فَبَصُرَتْ عَيْنِي، وَسَمِعَتْ أُذُنِي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسلوا زيد بن ثابت؛ فإنَّه كان حاضرًا معي.
وفي رواية أحمد (23996)، قال سُفيان: وزاد هشَام بن عُرْوة: قال أبو حُميد: سَمِعَ أُذُنِي، وأبْصَرَ عَيْنِي، وسلوا زيد بن ثابت.
وفي رواية مسلم (4769): زادَ في حديث سُفيان: قال: بَصُرَ عَيْني، وسَمِعَ أُذُنَاي، وسلوا زيد بن ثابت؛ فإنه كان حاضرًا معي [1].
التعريف بالصحابي:
أبو حُميد الساعدي: الصحابي المشهور، اسمه: عبدالرحمن بن سعد، ويُقال: عبدالرحمن بن عمرو بن سعد، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: اسم جَدِّه مالك، وقيل: هو عمرو بن سعد بن المنذر بن سعد بن خالد بن ثعلبة بن عمرو، ويقال: إنه عمُّ سهل بن سعد، روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- عِدَّة أحاديث، وله ذِكْر معه في الصحيحين.
روى عنه وَلد ولده سعيد بن المنذر بن أبي حميد، وجابر الصحابي، وعباس بن سهل بن سعد، وعبدالملك بن سعيد بن سويد، وعمرو بن سُليم، وعُروة، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وغيرهم؛
قال خليفة وابن سعد وغيرهما: شَهِد أُحدًا وما بعده، وقال الواقدي: تُوفِّي في آخر خلافة معاوية، أو أوَّل خلافة يزيد بن معاوية [2] في المدينة المنورة [3].
وقَع له في مسند بَقِيٍّ ستة وعشرون حديثًا [4].
غريب الحديث:
استعَمَل: وظَّف.
الأزْد بفتح الهمزة: قبيلة من بطون قحطان.
بني أَسْد: بفتح الهمزة وسكون السين المهملة؛ قال ابن حجر: ثم وَجَدت ما يُزيل الإشكال إن ثبَتَ، وذلك أنَّ أصحاب الأنساب ذكروا أن في الأزْد بَطنًا يُقال لهم: بنو أسَد بالتحريك، يُنسبون إلى أسد بن شُريك- بالمعجمة مُصغرًا- بن مالك بن عمرو بن مالك بن فَهْم، وبنو فَهْم بطنٌ شهير من الأزْد، فيحتمل أنَّ ابن الأُتْبيَّة كان منهم، فيَصِح أن يُقال فيه: الأزْدي بسكون الزاي والأسْدي بسكون السين وبفَتْحها من بني أسَد بفتْح السين، ومن بني الأزْد أو الأسْد بالسكون فيهما لا غير... اهـ [5].
ابن اللُّتْبيَّة: بضمِّ اللام وسكون التاء فوْقها نقطتان، وقد تُفتح نسبة إلى بني لتْب قبيلة معروفة.
قال ابن حجر: وقال عِياض: ضبَطه الأصيلي بخطِّه في هذا الباب بضمِّ اللام وسكون المُثنَّاة، وكذا قيَّده ابن السكن، وقال: وهو الصواب، وكذا قال ابن السمعاني: ابن اللُّتْبية بضمِّ اللام وفتْح المُثناة، ويقال بالهمز بدل اللام، وقد تقدَّم أن اسْمه عبدالله، واللُّتْبية أُمُّه، لَم نَقِف على تسميتها [6].
الصدقة: الزكاة.
الخُوار: صوت البقرة.
الرُّغاء: صوت الإبل.
العُفرة: بياض مشوب بالسُّمْرة.
تَيْعَر: تصيح وتصوت صوتًا شديدًا، وهو صوت الشاة [7].
شرح الحديث مختصرًا:
في الحديث دليلٌ على أنَّ هدايا العُمَّال والوُلاة والقُضاة سُحْتٌ؛ لأنه إنما يُهْدى إلى العامل؛ ليُغمضَ له في بعض ما يجب عليه أداؤه، ويَبخس بحقِّ المساكين، ويُهدى إلى القاضي؛ ليَميل إليه في الحُكم، أو لا يُؤْمَن من أن تحمله الهَديَّة عليه [8].
فقه الحديث:
1- فيه بيان عن مشروعية إلقاء الخطبة لأمور مهمَّة.
2- مشروعية استعمال اللفظة: أمَّا بعدُ بعد الحمد والثناء على الله- تعالى.
3- مشروعيَّة مُحاسبة المُؤْتَمَن، وأنَّ المحاسبة تُصَحِّح أمانته.
4- منْع العُمَّال من قَبول الهَديَّة ممن له عليه حُكم.
5- فيه أنها إذا أُخِذت تُجْعَل في بيت المال، ولا يُخْتَص العامل منها إلاَّ بما أَذِن له فيه الإمام، وهو مَبني على أنَّ ابن اللُّتْبيَّة أخَذَ منه ما ذكَر أنه أُهْدِي له، وهو ظاهر السياق.
6- وفيه إبطال كلِّ طريق يتوصَّل بها مَن يأخذ المال إلى مُحاباة المأخوذ منه، والانفراد بالمأخوذ.
7- وفيه أنَّ مَن رأى متأوِّلًا أخطأ في تأويلٍ يَضرُّ مَن أخَذ به، أن يُشهر القول للناس، ويُبيِّن خطَأه؛ ليحذِّر من الاغترار به.
8- وفيه جواز توبيخ المخطئ، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة، مع وجود من هو أفضلُ منه.
9- وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول مَن يُوافقه؛ ليكون أوْقعَ في نفس السامع، وأبْلغَ في طُمَأْنِينَته [9].
10- فيه تقريع يتوجَّع منه كلُّ ذي شعور، ويستحقه مثل هذا العامل الذي أراد أن يَخدع نفسه، ويخدع الناس، ويُفتيهم بحلِّ ما أخَذ من المُزَكِّين بدعوى أنه هَديَّة.
11- فيه أن عُمَّال الحكومة ومستخدمي الدولة، وذَوِي النفوس فيها، لا يحلُّ لهم تقبُّل الهدايا؛ فإنها في الحقِّ رِشوة في ثوب هَديَّة، وإنما حُرِّمت الهدايا للعُمَّال؛ حفظًا لحقوق الدولة، وحِرصًا على أموال الأمة، وصونًا لحقوق الأفراد من عبَث هؤلاء الحُكَّام، ومنْحهم حقَّ فلان لفلان، وإكرام المهدي على حساب خَصْمه، ولولا طمْعُ المُهدين في الظفر بحقِّ خصومهم، أو بحقٍّ من حقوق الدولة، ما بذلوا تلك الهدايا؛ ولهذا حُرِّمت الرِّشا والهدايا على أصحاب الحُكم والنفوذ، إلاَّ ممن اعْتَاد أن يهديَهم من قبل أن تَصير الولاية إليهم [10].
12- في قوله- صلى الله عليه وسلم-: «هلاَّ جلَس في بيت أُمِّه أو أبيه، فيَنظر يُهْدى إليه أم لا»، دليلٌ على أنَّ كلَّ أمرٍ يُتَذَرَّع به إلى محظور، فهو محظور، ويدخل في ذلك القرْض يجرُّ المنفعة، والدار المرهونة يَسكنها المُرتَهِن بلا كِراء، والدابَّة المرهونة يَرْكبها ويرتَفق بها من غير عِوَض، وكل دخيل في العقود يُنظر: هل يكون حُكمه عند الانفراد كحُكمه عند الاقتران [11].
13- هذا الحديث حُجة على اتفاق العلماء أنَّ العاملين عليها هم السُّعاة المتولون لقبْض الصدقة، وأنهم لا يستحقون على قبْضها جزءًا منها معلومًا سبعًا أو ثمنًا، وإنما للعامل بقدْر عمالته على حسب اجتهاد الإمام [12].
14- فيه أنَّ ما أُهْدِي إلى العامل وخِدمة السلطان بسبب سلطانهم، أنه لِبَيت مال المسلمين.
16- يُستفاد من الحديث عدمُ جواز اختصاص العامل بشيء مما يُهدى إليه، وأمَّا عدم جواز قبوله للهديَّة، فمأخوذ من أدلة أخرى غير هذا الحديث، وقد قدَّمنا حديث: «مَنِ استعملناه على عمل، فرَزَقناه رزقًا، فما أخَذ بعد ذلك، فهو غُلول»، ولاسيَّما إذا كان المقصود بها الرِّشوة له والتوصُّل بها إلى مسامحتهم في بعض ما يجب عليهم [13].
16- دلَّ الحديث على عدم الاعتبار بظاهر تلك الحال، رعيًا لباطن القصْد، وهو العطاء لأجْل الولاية [14].
17- فيه تحذير أنَّ مُحاباة الولاة في المعاملة من نوع الهدية [15].
18- قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: ومَن تأمَّل حديث ابن اللُّتْبية وحديث أنس، وحديث عبدالله بن عمرو، وحديث ابن عباس، وما في معناهما من آثار الصحابة التي لَم يَختلفوا فيها، عَلِم ضرورة أنَّ السُّنة وإجماع التابعين دليلٌ على أن التبرُّعات من الهِبَات والمحابيات ونحوهما، إذا كانتْ بسبب قرْض، أو ولاية، أو نحوهما، كان القرْض بسبب المحاباة في بيع أو إجارة، أو مُساقاة أو مضاربة، أو نحو ذلك، عوضًا في ذلك القرْض، والولاية بمنزلة المشروط فيه، وهذا يَجتثُّ قاعدة الحِيَل الرِّبوية والرشويَّة، ويدلُّ على حِيَل السِّفاح وغيره من الأمور، فإذا كان إنما يفعل الشيء لأجْل كذا، كان المقصود بمنزلة المنطوق الظاهر، فإذا كان حلالًا كان حلالًا، وإلاَّ فهو حرام، وهذا لِمَا تقدَّم من أنَّ الله- سبحانه- إنما أباحَ تعاطي الأسباب لِمَن يَقصِد بها الصلاح. اهـ [16].
19- فيه دليل على مشروعيَّة استعمال كُتَّاب الحساب؛ لأن بكُتَّاب الحساب تُحفظ الأموال وتُضبَط الغلال، وتُحَدُّ قوانين البلاد، وتُمَيَّز الطوارف من التّلاد، لَم يَفخر كُتَّاب الإنشاء بمنقبة إلاَّ فخروا بمناقبَ، ولا سَمَوا إلى مرتبة، إلاَّ وقد رَقوا إلى مراتب [17].
20- في الحديث حَثٌّ على أداء الأمانة في جميع الأمور، لاسيما فيما يتعلَّق بحقوق الناس [18].
21- يُستفاد من الحديث أنَّ أداء الموظف عملَه بجدٍّ وإخلاص، يُؤجَر عليه في الدنيا والآخرة.
22- مشروعيَّة اختيار العُمَّال والموظفين المخلصين من أهل الأمانة.
23- فيه حَثٌّ على اتِّصاف الموظف بالعِفَّة والسلامة مِن أخْذ الرِّشوة والهَدية [19].
24- فيه مشروعية رفْع اليَدين في الدعاء [20].
25- جواز الاستشهاد بالأُذُن والعين؛ لتأكيد السماع والنظر، من أجْل نفي الشك والشُّبهة فيما رأَى، أو سَمِع.
-----------------------------
[1] التخريج مأخوذ من المسند الجامع مع تصرُّف في الاختصار.
[2] الإصابة في تمييز الصحابة؛ لابن حجر (4/ 46)، وتهذيب الكمال؛ للمزي (33/ 264/ 7329).
[3] مشاهير علماء الأمصار (1/ 41).
[4] سِيَر أعلام النُّبلاء؛ للذهبي (2/ 481).
[5] فتح الباري؛ لابن حجر (13/ 176).
[6] الفتح (13/ 176).
[7] جامع الأصول في أحاديث الرسول؛ لابن الأثير (4/ 646)، وشرح السُّنة؛ للبغوي (5/ 497)؛ شُعيب الأرناءوط.
[8] شرح السنة؛ للبغوي (5/ 498).
[9] فتح الباري؛ لابن حجر (13/ 178- 179)، وشرح صحيح البخاري؛ لابن بطال (3/ 556- 557).
[10] مسند الشافعي بترتيب السندي (ص/ 711).
[11] شرح السنة؛ للبغوي (5/ 498)؛ بتحقيق الشيخ شُعيب الأرناءوط.
[12] شرح صحيح البخاري؛ لابن بطَّال (3/ 557).
[13] السَّيْل الجرَّار المتدفِّق على حدائق الأزهار؛ للشوكاني (ص/ 262)، دار ابن حزم- بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ.
[14] بدائع السلك في طبائع الملك؛ لابن الأزرق (ص/ 75).
[15] حُسن السلوك الحافظ دولة الملوك؛ لمحمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي الشافعي (ص/ 137)؛ تحقيق فؤاد عبدالمنعم أحمد، دار الوطن للنشر 1416هـ.
[16] بيان الدليل على بطلان التحليل؛ لابن تيمية (ص/ 217).
[17] نهاية الأرب في فنون الأدب؛ لشهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب النويري (8/ 145)، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى 1424هـ.
[18] مكارم الأخلاق ومعاليها؛ للخرائطي، باب حفظ الأمانة وذَمِّ الخيانة (184).
[19] كيف يؤدي الموظف أمانة العمل؛ للشيخ عبدالمحسن العباد (ص10- 12).
[20] فقه الأدعية والأذكار؛ للدكتور عبدالرزاق العباد (2/ 175).
الكاتب: أبو حميد عبدالملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي.
المصدر: موقع الألوكة.